الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأما القسم الرابع: وهو أن يقال إنه أقدم على ذلك الفعل من غير داع فهذا بناء على أن صدور الفعل من القادر هل يتوقف على حصول الداعي أم لا؟ فالذين يقولون إنه متوقف قالوا هذا القسم ممتنع الحصول، والذين قالوا: إنه لا يتوقف قالوا: هذا الفعل لا أثر له في الباطن وهو محرم في الظاهر لأنه عبث، والله أعلم.ثم قال تعالى: {كُلاَّ} أي كل واحد من الفريقين، والتنوين عوض من المضاف إليه: {نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبّكَ} أي أنه تعالى يمد الفريقين بالأموال ويوسع عليهما في الرزق مثل الأموال والأولاد، وغيرهما من أسباب العز والزينة في الدنيا، لأن عطاءنا ليس يضيق عن أحد مؤمنًا كان أو كافرًا لأن الكل مخلوقون في دار العمل، فوجب إزاحة العذر وإزالة العلة عن الكل وإيصال متاع الدنيا إلى الكل على القدر الذي يقتضيه الصلاح فبين تعالى أن عطاءه ليس بمحظور، أي غير ممنوع يقال حظره يحظره، وكل من حال بينه وبين شيء فقد حظره عليك.ثم قال تعالى: {انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} وفيه قولان:القول الأول: المعنى: انظر إلى عطائنا المباح إلى الفريقين في الدنيا، كيف فضلنا بعضهم على بعض فأوصلناه إلى مؤمن. وقبضناه عن مؤمن آخر، وأوصلناه إلى كافر، وقبضناه عن كافر آخر، وقد بين تعالى وجه الحكمة في هذا التفاوت فقال: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ في الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ درجات لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32] وقال في آخر سورة الأنعام: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ درجات لّيَبْلُوَكُمْ فِيمَا ءاتاكم} [الأنعام: 165].ثم قال: {وَلَلأَخِرَةُ أَكْبَرُ درجات وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} والمعنى: أن تفاضل الخلق في درجات منافع الدنيا محسوس، فتفاضلهم في درجات منافع الآخرة أكبر وأعظم، فإن نسبة التفاضل في درجات الآخرة إلى التفاضل في درجات الدنيا كنسبة الآخرة إلى الدنيا، فإذا كان الإنسان تشتد رغبته في طلب فضيلة الدنيا فبأن تقوى رغبته في طلب فضيلة الآخرة أولى.القول الثاني: أن المراد أن الآخرة أعظم وأشرف من الدنيا، والمعنى أن المؤمنين يدخلون الجنة، والكافرين يدخلون النار، فيظهر فضل المؤمنين على الكافرين، ونظيره قوله تعالى: {أصحاب الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24].{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)} في الآية مسائل:المسألة الأولى:في بيان وجه النظم.فنقول: إنه تعالى لما بين أن الناس فريقان منهم من يريد بعمله الدنيا فقط وهم أهل العقاب والعذاب، ومنهم من يريد به طاعة الله وهم أهل الثواب.ثم شرط ذلك بشرائط ثلاثة: أولها: إرادة الآخرة.وثانيها: أن يعمل عملًا ويسعى سعيًا موافقًا لطلب الآخرة.وثالثها؛ أن يكون مؤمنًا لا جرم فصل في هذه الآية تلك المجملات فبدأ أولًا بشرح حقيقة الإيمان، وأشرف أجزاء الإيمان هو التوحيد ونفي الشركاء والأضداد فقال: {لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها ءاخَرَ} ثم ذكر عقيبه سائر الأعمال التي يكون المقدم عليها، والمشتغل بها ساعيًا سعيًا يليق بطلب الآخرة، وصار من الذين سعد طائرهم وحسن بختهم وكملت أحوالهم.المسألة الثانية:قال المفسرون: هذا في الظاهر خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن في المعنى عام لجميع المكلفين كقوله: {يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء} [الطلاق: 1] ويحتمل أيضًا أن يكون الخطاب للإنسان كأنه قيل: أيها الإنسان لا تجعل مع الله إلهًا آخر، وهذا الاحتمال عندي أولى، لأنه تعالى عطف عليه قوله: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه} إلى قوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا} [الإسراء: 23] وهذا لا يليق بالنبي عليه السلام، لأن أبويه ما بلغا الكبر عنده فعلمنا أن المخاطب بهذا هو نوع الإنسان.المسألة الثالثة:معنى الآية أن من أشرك بالله كان مذمومًا مخذولًا، والذي يدل على أن الأمر كذلك وجوه: الأول: أن المشرك كاذب والكاذب يستوجب الذم والخذلان.الثاني: أنه لما ثبت بالدليل أنه لا إله ولا مدبر ولا مقدر إلا الواحد الأحد، فعلى هذا التقدير تكون جميع النعم حاصلة من الله تعالى، فمن أشرك بالله فقد أضاف بعض تلك النعم إلى غير الله تعالى، مع أن الحق أن كلها من الله، فحينئذ يستحق الذم، لأن الخالق تعالى استحق الشكر بإعطاء تلك النعم فلما جحد كونها من الله، فقد قابل إحسان الله تعالى بالإساءة والجحود والكفران فاستوجب الذم وإنما قلنا إنه يستحق الخذلان، لأنه لما أثبت شريكًا لله تعالى استحق أن يفوض أمره إلى ذلك الشريك، فلما كان ذلك الشريك معدومًا بقي بلا ناصر ولا حافظ ولا معين.وذلك عين الخذلان.الثالث: أن الكمال في الوحدة والنقصان في الكثرة، فمن أثبت الشريك فقد وقع في جانب النقصان واستوجب الذم والخذلان، واعلم أنه لما دل لفظ الآية على أن المشرك مذموم مخذول وجب بحكم الآية أن يكون الموحد ممدوحًا منصورًا، والله أعلم.المسألة الرابعة:القعود المذكور في قوله: {فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولًا} فيه وجوه: الأول: أن معناه: المكث أي فتمكث في الناس مذمومًا مخذولًا، وهذه اللفظة مستعملة في لسان العرب والفرس في هذا المعنى، فإذا سأل الرجل غيره ما يصنع فلان في تلك البلدة فيقول المجيب: هو قاعد بأسوأ حال معناه: المكث سواء كان قائمًا أو جالسًا.الثاني: إن من شأن المذموم المخذول أن يقعد نادمًا متفكرًا على ما فرط منه.الثالث: أن المتمكن من تحصيل الخيرات يسعى في تحصيلها، والسعي إنما يتأتى بالقيام، وأما العاجز عن تحصيلها فإنه لا يسعى بل يبقى جالسًا قاعدًا عن الطلب فلما كان القيام على الرجل أحد الأمور التي بها يتم الفوز بالخيرات، وكان القعود والجلوس علامة على عدم تلك المكنة والقدرة لا جرم جعل القيام كناية عن القدرة على تحصيل الخيرات.والقعود كناية عن العجز والضعف.المسألة الخامسة:قال الواحدي: قوله: {فتقعد} انتصب لأنه وقع بعد الفاء جوابًا للنهي وانتصابه بإضمار أن كقولك لا تنقطع عنا فنجفوك، والتقدير: لا يكن منك انقطاع فيحصل أن نجفوك فما بعد الفاء متعلق بالجملة المتقدمة بحرف الفاء التي هي حرف العطف.وإنما سماه النحويون جوابًا لكونه مشابهًا للجزاء في أن الثاني مسبب عن الأول، ألا ترى أن المعنى إن انقطعت جفوتك كذلك تقدير الآية إن جعلت مع الله إلهًا آخر قعدت مذمومًا مخذولًا. اهـ.
اهـ.
|